اسامي الكتب

  • حسين عطوان..الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الأول.pdf

الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

السمات التي يتميز بها العصر العباسي الثاني

السمات التي يتميز بها العصر العباسي الثاني


أولا - تغلب المتغلبين على الخلافة
يعتبر إقدام القادة الأتراك على قتل الخليفة المتوكل على الله في الخامس عشر من شهر شوال سنة 247هـ, بداية العصر العباسي الثاني, وفيه استبد القادة بالسلطة, وأصبح الخليفة طوع إرادتهم وأسير هواهم, وقد عبر عن ذلك شاعر فقال:
خليفـــة فـــي قفــص
بيـن وصيـف وبغـا

يقــول مـــا قــالا لـه
كمــــا تقول الببغا



وقد أصبح مصير الخلافة في أيديهم, فمن شاءوا خلعوه ثم قتلوه, ومن شاءوا ألزموه خلع نفسه وسملوه وصادروا أمواله. وحين خلع الخليفة أحمد المستعين بالله, وهو أول خليفة خلع, لم يلبث أن قتل بعد خلعه.
وقد تنبأ الناس بمصير من تتابع بعده من خلفاء بني العباس, وسار في الناس شعر قيل في ذلك اليوم يقول:
خـــلع الخليفـــة أحـمد
وسيقتل التالي لـه أو يخلع

إيهـا بنـي العباس إن سـبيلكم
في قتل أعبدكم سبيل مهيع

رقعتــم دنيـــاكم فتمـزقت
بكــم الحياة تمزقا لا يرقع



ولما استولى البويهيون على السلطة بعد الأتراك, اتبعوا نهجهم, فكان الأمير البويهي يولي الخلافة من يشاء ويخلع من يشاء وكان الخلع كثيرا ما يتم بالذل والهوان, ويصف لنا الشريف الرضي بقصيدة مؤثرة مشهد خلع الخليفة الطائع في يوم عرف بيوم الدار .
وكان خلع الخليفة يوم ابتهاج عند الجند, ففيه يجري نهب دار الخلافة وفيه يطالب الجند الخليفة الجديد برسم (بيعته). وكان يجري على الخليفة المخلوع نفقة قد لا تكفيه, فيضطر إلى التكفف واستعطاف الناس, كما جرى للخليفة القاهر بالله بعد خلعه ومصادرة أمواله وسمله, فكان يخرج إلى جامع المنصور ويتكفف المصلين ويقول: تصدقوا علي فأنا من قد عرفتم .
وقد تحقق ما قيل في خلفاء بني العباس من خلع وسمل وقتل. فقد توالى على الخلافة منذ خلافة المنتصر بالله سنة 248هـ إلى خلافة المستظهر بالله سنة 487هـ, أي خلال 239 سنة, سبعة عشر خليفة, منهم أربعة قتلوا وهم: المستعين بالله والمعتز بالله والمهتدي بالله والمقتدر بالله, ومنهم ثلاثة خلعوا وسملوا وهم: القاهر بالله والمتقي لله والمستكفي بالله, ومنهم اثنان أجبرا على خلع نفسيهما وهم: المطيع والطائع, وهناك خليفتان قيل في بعض الروايات أنهما قتلا بالسم وهما: المعتمد على الله والمعتضد بالله, فيكون مجموع من قتل وخلع ومات بالسم عشر خلفاء.

ثانيا - عزل الوزراء ومصادرتهم

لم يكن حال الوزراء بأفضل من حال الخلفاء, فكان الوزير يأتمر بأمر المتغلبين, فإذا غضبوا عليه عزلوه وصادروا أمواله, وقد يقتلونه, كما جرى للوزير أحمد بن إسرائيل ولكاتبه عيسى بن نوح. فقد صادرهما القائد التركي صالح بن وصيف وقتلهم ضربا بالسياط . ومثل ذلك بل أشد جرى لكثير من الوزراء.
وكثيرا ما كان الوزير يُنصب ثم يُعزل, ويتكرر نصبه وعزله عدة مرات لا يفصل بينهما إلا أمد قصير, وغالبا ما كان ينتهي عزله بمصادرته وقتله, ومع ذلك فإن الكثيرين كانوا يطمعون في تولي الوزارة, ويبذلون المال في سبيل توزيرهم.
ذلك أن الوزارة كانت موردا للثراء الفاحش عن طريق الرشاوى, من ذلك أن محمد بن عبيد الله بن خاقان وزير المعتضد بالله كان يأخذ الرشوة من كل طالب وظيفة, وربما عين للوظيفة الواحدة عددا من الموظفين, وقيل إنه عين في يوم واحد تسعة عشر ناظرا للكوفة وأخذ من كل واحد رشوة. وإذا كان الوزير حسن السياسة, وكان ذا دهاء وذكاء فإنه يستطيع أن ينال من الخليفة أو الأمير البويهي تفويضا بتصريف أمور الدولة, وكان أهمها ضمان الخراج وتعيين الولاة والعمال والقضاة والكتاب, فيكون للوزير على من يوليه جبايات يجني منها ربحا وفيرا, ويثري به ثراء فاحشا.
من أجل ذلك كانت الوزارة هدفا للدسائس من حاسدي الوزير, الطامعين في منصبه, فإذا أفلح الدس على الوزير عزل وصودرت أمواله, وكان ما يصادر يعد بآلاف الآلاف من الدنانير, ومع ذلك فقد يسلم له الكثير مما يكون قد طمره في حفرة, أو أخفاه في مكان بعيد. لذلك كانوا يعتبرون الوزارة مركز ابتلاء ونقمة, ولا تلبث أيامها القصار أن تنتهي ببلاء حتي قيل في ذلك:
إذا أبصرت فـي خلع وزيرا
فقل أبشر بقاصمة الظهور

بأيام طـوال فــي بـلاء
وأيام قصار في سـرور



وكثيرا ما كان يصح الرأي في الوزير المعزول أو تنجح الشفاعة فيه, فيستوزر للمرة الثانية والثالثة, فإذا عاد, كان أول ما يفعله بطشه بخصومه وجمعه عن طريق الجبايات والرشاوي ما فقده بالعزل والمصادرة, وفي ذلك يقول شاعر من شعراء ذلك العصر:
وزير لا يمل مـن الرقاعة
يولي ثـم يعزل بعـد ساعة

إذا أهل الرشا صاروا إليه
فأحظى القوم أوفرهم بضاعة

ثالثا - ارتزاق صنائع الوزراء

كان لبعض الوزراء صنائع يتكسبون بسلطانهم بأسباب كثيرة.
من ذلك ما روي عن عبيد الله بن وهب وزير الخليفة المعتمد على الله فقد فعل هذا الوزير ما أسخط عليه الموفق بالله, أخو الخليفة والمتغلب عليه. فطلبه فهرب واستتر عند تاجر من تجار بغداد يدعى عبد الله بن أبي عون, ثم صالحه الموفق وعفا عنه. ولما تولى المعتضد بالله بن الموفق الخلافة استوزره, فأراد أن يكافئ ابن أبي عون وحصل له على مائة ألف دينار بالطريقة الآتية: باعه مائة ألف (كر) من غلات الخلافة, وانتقص من قيمة كل كر دينارا.
كذلك سمح له أن يتوسط في قضاء حاجات الناس لقاء مبلغ يقبضه منهم, وكان الوزير يسأله عما يأخذه من كل قضية, فإذا وجد ما قبضه قليلا قال له: هذه القضية تساوي أكثر مما قبضت فارجع فاسترد, فإذا قال له: إنني أستحي, قال له الوزير: عرفهم أني لا أقضي لك حاجتهم إلا بهذا القدر, وأني رسمت لك هذا, فيرجع فيستزيد فيزيدون له وقد جرى ابنه القاسم بن عبيد الله على هذه الخطة عندما خلف أباه في الوزارة,
فقد روي أن إسحاق الزجاج الإمام في اللغة والنحو, كان مؤدبا للقاسم وهو صغير, فقال له يوما: إن بلغك الله مبلغ أبيك في الوزارة, ما تصنع بي؟ فقال: ما أحببت, فقال له: تعطيني عشرين ألف دينار, فقال: نعم. وولي القاسم الوزارة في عهد الخليفة المعتضد بالله والخليفة المكتفي بالله, وجاء الزجاج يستنجز الوعد, فأمره أن يجلس للناس ويأخذ رقاعهم للحوائج الكبار ويتقاضى أجرا عليها, فجمع بذلك أضعاف ما كان يتمناه بعلم الوزير


رابعا - ابتداع الألقاب والكنى
كان خلفاء بني أمية يتكنون, على عادة العرب, بأسماء أكبر أبنائهم ويلقبون بأمير المؤمنين, كما كان يلقب الخلفاء الراشدون من عهد عمر بن الخطاب .
ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس أضافوا إلى هذا اللقب ألقابا تدل على صفة يتميز بها الخليفة. فقد عرف عبد الله أبو العباس أول خليفة عباسي, بلقب (السفاح) وتلقب أخوه عبد الله أبو جعفر بلقب (المنصور) وتلقب ابنه محمد من بعده بلقب (المهدي) وتلقب من بعده ولداه, موسى وهارون بلقب موسى (الهادي) وهارون (الرشيد). ولقب الرشيد أولاده الثلاثة: محمد وعبد الله والقاسم بلقب محمد (الأمين) وعبد الله (المأمون) والقاسم (المؤتمن).
ولما تولى الخلافة محمد بن الرشيد خلفا لأخيه المأمون ابتدع لقبا, أضافه إلى اسم الله تعالى فتلقب بمحمد (المعتصم بالله), وجرى الخلفاء من بعده على تقليده, وأصبح الخليفة يعرف بلقبه.
ولما استبد القادة الأتراك بالسلطة منح الخليفة إلى من بيده السلطة منهم لقب (أمير الأمراء) وجاء من بعدهم المتغلبون من بني بوية فأضفى عليهم الخليفة العباسي ألقابا فيها معنى الاعتراف بسلطانهم, فلقب أحمد بن بوية بلقب (معز الدولة) ولقب أخاه عليا بلقب (عماد الدولة) ولقب أخاه الحسن بلقب (ركن الدولة), وتولى تلقيب أبنائهم من بعدهم بمثل تلك الألقاب, كعضد الدولة وجلال الدولة وبهاء الدولة وفخر الدولة.
ولم يكتف بنو بوية بهذه الألقاب, بل أضافوا إليها لقب (السلطان), ومنهم من تلقب بلقب (شاهنشاه) أي ملك الملوك. ثم سرت هذه الألقاب بعد ذلك إلى أمراء الأقاليم المستقلين, فكان من الحمدانيين في الموصل وحلب: ناصر الدولة وسيف الدولة وشبل الدولة, وتبعهم بعد ذلك أمراء بني عقيل في الجزيرة وملوك الإخشيد في مصر, وسلاطين غزنة وكان منهم: ناصر الدولة سبكتكين ويمين الدولة محمود وشهاب الدولة وجمال الدولة وكمال الدولة, وإلى هذه الألقاب أضيفت أيضا كنى كأبي الفضائل وأبي المعالي وما شابه ذلك.
كذلك منح الوزراء وكبار الكتاب المترسلين في ديوان الخلافة ألقابا ترمز إلى مكانتهم وتدل على رتبهم. فقد منح المأمون وزيره الفضل بن سهل لقب (ذو الرئاستين) ومنح أخاه الحسن لقب (ذو الكفاءتين) ومنح طاهر بن الحسين لقب (ذو اليمينين). وجرى الخلفاء من بعده على هذا النحو. فقد لقب الخليفة المعتضد بالله وزيره أبا القاسم علي بن المسلمة بلقب (رئيس الرؤساء) ومنح وزيره محمد بن جهير لقب (فخر الدولة). ولقب الخليفة المستظهر وزيره علي بن محمد بن جهير بلقب (زعيم الرؤساء).
وقد أصبحت الكنى والألقاب في العصر العباسي الثاني موردا للخلفاء, وخاصة بعد أن رفعت عن أيديهم أموال بيت المال في عهد معز الدولة البويهي فكان الخليفة يبيع الألقاب لمن يطلبها, وفي ذلك يقول أبو بكر الخوارزمي:
أما رأيت بني العباس قد فتحوا
من الكنى ومـن الألقاب أبوابا

ولقبوا رجـلا لو عاش أولهم
ما كان يرضى به للقصر بوابا

قـل الدارهم في كفي خليفتنا
هذا فأنفـق في الأقـوام ألقابا



وقد نهج الخلفاء الفاطميون نهج الخلفاء العباسيين في الألقاب, فكان منها المهدي بالله والعزيز بالله والمعتز بالله والحاكم بأمر الله والمستنصر بالله, وفي الأندلس تسمى عبد الرحمن الثالث بن محمد بالخليفة واتخذ لنفسه لقب الناصر لدين الله ونهج أخلافه نهجه, فكان منهم المؤيد بالله والمستعين بالله والمستظهر بالله والمعتد بالله.
واتخذ ملوك الطوائف في الأندلس الألقاب فكان منهم المعتضد بالله ملك أشبيلية وابنه المعتمد على الله وكانت هذه الألقاب على ضخامتها لا تمثل لمن اتخذها لنفسه شيئا من معانيها, حتى تندر بها الشاعر ابن عمار فقال:
مما يزهـدني فـي أرض أندلس


خامسا - مظالم عمال الخراج

يشمل الخراج ضريبة ما تخرجه الأرض من ثمرات ومحاصيل, وكان يتولى جبايتها مع جباية موارد الدولة الأخرى عمال يدعون (عمال الخراج) وكانوا يتمتعون بسلطة كبيرة. وقد عرفوا بالظلم والعسف فكانوا يجبون أضعاف ما كانوا يضمنون أداءه للدولة.
وقد روى المؤرخون ما كان يجري على أيديهم من المظالم, وما كان يلقى المكلفون من صنوف العذاب. وقد وصف ابن المعتز في أرجوزة نظمها ما كان يلقى المكلفون من أنواع التشهير والتعذيب في أداء ما يفرض عليهم فيقول:
فكم وكم مــن رجـل نبيل
ذي هيبـة ومـركب جـليل

رأيته يعــتل بالأعــوان
إلى الحـبوس وإلـى الديوان

حتى أقيم في جحـيم الهاجرة
ورأســه كمثل قـدر فائره

وجعلوا فــي يــده حبالا
مـن قنـب يقطع الأوصـالا

وعلقوه فـي عـرى الجدار
كأنـه بـرادة فـي الــدار

وصفقوا قفاه صفـق الطبل
نصبا بعيــن شـامت وخل

وحمروا نقرته بيـن النقـر
كأنها قد خجلت ممــن نظر

إذا استغاث من سعير الشمس
أجابه مسـتخــرج برفس

وصـب سـجان عليه الزيتا
فصـار بعــد بــزة كميتا

حـتـى إذا طال عليه الجهد
ولم يكـن مـما أراد بــد

قال أذنوا لي أسال التجـارا
قرضا, وإلا بعتهـم عقـارا

وأجـلوني خمـسـة أياما
وطــوقوني منـكم أنعاما

فضـايقوا وجعلوهـا أربعة
ولم يؤمل في الكلام منفعـة

وجاءه المعينـون الفجـرة
وأقرضوه واحـدا بعشــرة

وكتبوا صكا ببيع الضيعـة
وحـلفــوه بيميـن البيعة

ثم تأدى ما عليه وخـرج
ولم يكن يطمع في قرب الفرج

وجاءه الأعــوان يسألونه
كأنهـم كـانـوا يــذللونه

وإن تلــكأ أخـذوا عمامته
وخمشوا أخدعـه وهـامته



في هذء الأرجوزة وصف صادق من شاهد عيان, ومن كابن المعتر, وهو ابن خليفة وخليفة وشاعر وجداني كبير, يستطيع أن يصف ما كان يعانيه المكلف بالخراج من تعذيب.
كان إذا عجز عن أداء خراج ضيعته سلط عليه عامل الخراج أعوانه فيأخذونه من تلابيبه ويجرونه إلى الحبس جرا ثم يقيدونه بالحبال المصنوعة من (القنب) ويعلقونه في عرى الجدار ثم يأخذون في صفعه أمام الناس وفيهم العدو الشامت به والصديق المتأسي له, فإذا استغاث من ألم الضرب وسعير الشمس رفسه الأعوان وصب عليه السجان الزيت فشوه هيئته, وإذا اشتد عليه العذاب طلب أن يمنحوه خمسة أيام ليجمع المبلغ المطلوب منه ببيع عقاره فلا يمنح إلا أربعة أيام, وحين يسمع المرابون بأمره, يستغلون محنته, وأقرضوه كل قرش بعشرة أمثاله, وكتبوا عليه صكا, وألزموه حلف الأيمان, واستكتبوه صكا ببيع ضيعته إذا تأخر في الوفاء فيضطر للإذعان, فإذا حصل على المال أتاه أعوان عامل الخراج ليستوفوا أجرهم, فإذا تلكأ أخذوا عمامته وخمشوا وجهه وهامته.
ثم يصف ابن المعتز في أرجوزته, ما كان يصنعه عمال الخراج في استيفاء الضريبة من التجار. كانوا إذا امتنع أحدهم عن دفع ما يفرضون عليه, ادعوا عليه أن السلطان أودعه وديعة وعليه أن يردها, فإذا أنكر ذلك صبوا عليه أسواط العذاب.
ومثل ذلك يفعلون مع من يرث ميراثا ضخما, فكانوا يعملون على الاستيلاء على ميراثه, أو يشركونه فيه, فإذا رفض سجنوه وأخذوا في تعذيبه حتى ينالوا ما يريدون وفي ذلك يقول ابن المعتز
وويل من مات أبوه موسرا
أليس هذا محكما مشـهرا

وطال في دار البلاء سجنه
وقال: من يدري بأنه ابنه

وأسرفوا في لكمه ودفعـه
وانطلقت أكفهم في صفعه

ولم يزل في أضيق الحبوس
حـتى رمى إليهم بالكيس

وتاجر ذي جـوهر ومـال
كان من الله بأحسـن حل

قيل له: عندك للسلطــان
ودائـع, غاليـة الأثمان

فقال: لا والله مـا عندي له
صغـيرة من ذا, ولا جليله


وإنما ربحـت في التجـارة
ولم أكن في المال ذا خساره

فدخـنوه بـدخان التبــن
وأوقـدوه بثـفال اللـبن

حتى إذا مـل الحياة وضجر
وقال: ليت المال جمعا في سقر

أعطاهم ما طلبوا فانطلقـا
يستعمل المشي ويمشي العنقا



وقد جمع عمال الخراج مما جنوه ثروات كبيرة, ملكوا بها الضياع وبنوا الدور والقصور وعقدوا فيها مجالس الطرب والسمر والشراب, وقصدهم الشعراء يتكسبون بمدحهم, وقد اشتهر منهم إبراهيم وأحمد ابني عبد الله بن المدبر.
فكان الأول عامل الخراج في البصرة والأهواز أيام الخليفة المعتضد وكان الثاني عامل الخراج في مصر والشام أيام الأمير أحمد بن طولون وقد مدحهما البحتري ونال منهما خيرا وفيرا .
وقد يتولى الوزير مع وزارته ضمان الخراج, فيجبي بسلطانه مالا كثيرا, يؤدي بعضه إلى بيت المال ويوفر لنفسه ما تبقى.
من ذلك أن حامدا بن عباس وزير الخليفة المقتدر, ضمن خراج سواد بغداد والكوفة والأهواز بمبلغ دفعه إلى بيت المال, وجبى بسلطانه أضعاف ما أداه, واحتكر الغلال حتى ضج الناس من ارتفاع أسعارها, فعزله الخليفة وصادر منه ألف ألف (مليون) دينار, ثم نفاه إلى واسط وتولى علي بن أحمد الراسبي ضمان الخراج من حدود واسط إلى شهرزور بمليون وأربعمائة ألف دينار في السنة وذلك في عهد الخليفة المقتدر, ولما مات خلف أموالا كثيرة استولى الخليفة منها على مليون دينار .
سادسا - مصادرة الأموال

لم تقتصر المصادرة على أموال من يخلع من الخلفاء أو يعزل من الوزراء والعمال, بل شملت أموال الناس وخاصة التجار منهم, فكان الخليفة العباسي أو السلطان البويهي, إذا أعوزه المال أمر بمصادرة التجار.
من ذلك أن الموفق بالله, وكان صاحب السلطة في خلافة أخيه المعتمد على الله أمر الوزير صاعد بن مخلد أن يلزم التجار بتوفير المال لتزويد جيش يرسله لمحاربة عمرو بن الليث الصفار فلما لم يجد منه العزم على تنفيذ ما أمر به, أمر بمصادرة أمواله وأموال أخيه عبدون بن مخلد, وقد بلغ قيمة ما صادره من أموالهما ألف ألف (مليون) دينار, وأمر بحبس صاعد .
وقد تكون المصادرة انتقاما من تاجر ثري, كما جرى لعبد الله بن الجصاص فقد أمر الخليفة المقتدر بمصادرته, لأنه آوى عبد الله بن المعتز بعد خلعه من الخلافة, وبلغ ما صودر منه ستة ملايين دينار سوى ما حمل من داره .


سابعا - فساد القضاء
القضاء هو الأداة التي تضمن سلامة المجتمع وأمنه بإشاعة العدل والمساواة بين أفراده. ويشترط في القاضي أن يكون عالما بأحكام الشرع, مراعيا مقاصده ومجتهدا فيه, وأن يكون عفيفا, غير طامع في مال ولا مغتر بجاه ولا مطيع لسلطان في غير ما أمر الله.
وكان القاضي يرتزق من بيت المال في حدود حاجته وقد يتورع فيقضي بغير أجر. ومن الفقهاء من كان يعتبر القضاء محنة وابتلاء فيأبى توليه مخافة أن يصدر في قضائه عن جور أو يلحق ظلما بأحد, فيبوء بخسران يقاضيه الله عليه. ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: قاض في الجنة وقاضيان في النار فهو يخشى أن يكون أحد القاضيين.
وهذا أبو حنيفة يريده الخليفة المنصور العباسي على القضاء فيمتنع, فيأمر المنصور بضربه بالسياط, ثم يأمر بحبسه, وفي قول إنه مات في الحبس . وهذا سفيان الثوري يكتب إليه الخليفة المهدي بولاية قضاء الكوفة على أن لا يتعرض أحد لحكم من أحكامه, فيأخذ العهد ويرميه في دجلة ثم يتوارى . ومثله إسماعيل بن إبراهيم الأسدي المعروف بابن علية وعبد الله بن وهب وكثيرون غيرهم ممن تحرج من تولي القضاء فامتنع عن قبوله.
هكذا كان شأن القضاء فيما مضى حتى العصر العباسي الثاني, فقد تأثر بفساد العصر وأصبح وسيلة للارتزاق, وارتقى إليه من ليس من أهله. ففي عهد الخليفة المقتدر, ولى وزيره أبو الحسن بن الفرات القضاء تاجرا كان أسدى إليه معروفا .
ومضت فترة جرى فيها تضمين القضاء. ففي عام 350هـ ضمن السلطان معز الدولة البويهي قضاء بغداد لأبي عبد الله بن أبي الشوارب ومعه قضاء القضاة, لقاء مائتي ألف درهم يدفعها كل سنة إلى خزانة السلطان .
وكان تضمين القضاء وسيلة للرشوة, ويبدو أنها كانت مألوفة عند بعض أبناء أبي الشوارب, وأكثرهم ممن تولى القضاء فقد روى ابن كثير أن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي الشوارب, قاضي بغداد كان ينسب إلى أخذ الرشوة في الأحكام والولايات . على أن هذه الأسرة قد تولى أكثر أبنائها القضاء, وكانوا على جانب كبير من العلم والورع, غير أن الفساد سرى إلى بعضهم, وكان فساد القضاء كما يقول صاحب المنتظم, أول ما انحل من سياسة الملك .
وقد أورد محمد بن سعد الزهري المتوفي عام 230هـ مقارنة بين قضاة صدر الإسلام وقضاة زمانه فقال: كان الرجلان يتقاولان بالمدينة في أول الزمان فيقول أحدنا للآخر: لأنت أفلس من القاضي, فصار قضاة اليوم ولاة وجبابرة وملوكا وأصحاب غلات وضياع وتجارات وأموال .

ثامنا - الفتن
أ - الفتن المذهبية ثارت بين الشيعة وبين أهل السنة, وخاصة الحنابلة منهم, فتن كان مسرحها بغداد . وقد بدأت في أوائل القرن الرابع الهجري وامتدت إلى أواخر القرن الخامس الهجري, وكانت تتوالى الفتن عاما بعد عام, وكثيرا ما كانت تشتد, فينشب فيها قتال مرير يرافقه حرائق وتدمير.
وكان من أسباب هذه الفتن احتفال الشيعة بيوم الغدير , والاختلاف في تفسير بعض آيات القرآن الكريم التي تتعلق بصفات الله تعالى, فكان الشيعة يفسرونها على التأويل على عكس الحنابلة.
ففي سنة 317هـ قامت فتنة كبرى بينهم بسبب تفسير آية: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا فالحنابلة يفسرونها على أن الله تعالى يجلس محمدا معه على العرش, لأنهم يأخذون بظاهر الآية, ويفسرها الشيعة بالتأويل, وعندهم أن المقصود منها هو الشفاعة.
وقد شد آل بوية أزر الشيعة لتشيعهم, وشد الأتراك أزر أهل السنة لأخذهم بمذهبهم, وكان القُصاص من الجانبين يثيرون شعور الطرفين بالعداء ويحرشون فيما بينهم .
كذلك كانت تثور الفتن بين الحنابلة والأشاعرة, وبين الحنفية والشافعية, فكان أهل كل مذهب يتعصبون لمذهبهم, ويدفعهم التعصب إلى أن يقتتلوا. ففي عام 469هـ قدم أبو نصر القشيري إلى بغداد فوعظ بالمدرسة النظامية ونصر الأشاعرة وحط على الحنابلة, فهاج عوام أهل السنة وأحداثهم وقصدوا المدرسة النظامية, وحميت الفتنة وقتل جماعة منهم. وثارت الفتنة في عام 476هـ بين الفريقين وتلتها فتن أخرى امتدت إلى آخر القرن السادس الهجري .
كذلك ثارت الفتن بين الحنفية والشافعية, وكلاهما من أهل السنة, ففي عام 468هـ نشبت فتنة كبرى بينهم بسبب تحول إمام من أئمة الحنفية إلى المذهب الشافعي. فقد روى السبكي أن الإمام أبو المظفر منصور بن أحمد بن عبد الجبار المعروف بابن السمعاني الخراساني. تحول من المذهب الحنفي الذي ناظر فيه ثلاثين سنة, إلى المذهب الشافعي, فقامت الحرب بين جماعة المذهبين, واضطرمت الفتنة بينهم, حتى كادت أن تملأ ما بين خراسان والعراق .
وقد أقدم الإمام ابن السمعاني على التحول من مذهبه إلى المذهب الشافعي للتقرب من نظام الملك وزير السلطان السلجوقي ألب أرسلان وكان هذا الوزير متعصبا للمذهب الشافعي, وهو مذهب الدولة السلجوقية, وقد أنشأ في بغداد وأصفهان وفي مدن أخرى مدارس عرفت بالمدارس النظامية لتدريس المذهب الشافعي.
ويصف لنا ياقوت في معجمه آثار الخراب الذي أصاب بعض المدن في أعقاب الفتن التي كانت تنشب بين أصحاب المذهبين, فحين يذكر مدينة أصفهان يقول: "وقد فشا الخراب في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الحنفية والشافعية, والحروب المتصلة بين الحزبين, فكلما ظهرت طائفة نهبت الأخرى...", وجرى مثل ذلك في مدن أخرى كالري وساوة .
وروى الإمام السبكي أن مسعود بن علي وزير خوارزم شاه, أمير خوارزم كان متعصبا للشافعية, وقد بنى في مدينة (مرو) جامعا, فتعصب عليه أهل المدينة وهم أحناف, وأحرقوا الجامع, وقامت فتنة هائلة, كادت الجماجم فيها تطير عن الغلاصم .
ب - فتن الجند كان الجيش في أغلبه يتألف من الأتراك والديلم, وكثيرا ما شغبوا على الخليفة لتأخر أعطياتهم, وكثيرا ما أدى شغبهم إلى خلع الخليفة طمعا برسم البيعة ممن يخلفه. وقد يرتد شغبهم على الناس, فتندلع فتنة يكثر ضحاياها.
ففي عام 421هـ برم الناس من اعتداء الجند الأتراك, وعجزت الدولة عن ردعهم لضعفها وهوانها, فاجتمع الهاشميون والعلوين ومعهم الفقهاء, فاستنفروا الناس لصد الأتراك. فعمد الأتراك إلى رفع الصليب على رمح, يتحدون بذلك الدولة, وترامى الفريقان بالنشاب والآجر, وقتل طائفة من الناس .
وفي عام 429هـ تظلم الناس من اعتداء الديلم واقتحامهم الدور وتعرضهم للنساء, فلم يستمع السلطان البويهي لتظلمهم, فالتحموا مع الديلم في قتال مرير, واهتبل العيارون انشغال الناس في القتال, فداهموا البيوت والمخازن, واقتحم اللصوص بغداد فأخذوا ما وجدوا من الخيول .
ج - فتن العيارين والشطار كان للعيارين والشطار نصيب كبير في الفتن, فقد تألف منهم فرق منظمة, كانت تخضع لزعيم يدعى (مقدم العيارين) وهو الذي يزودها بالسلاح ويتولى تدريبها وتوجيهها, وأشهرهم: عزيز البابصري (نسبة إلى باب البصرة), والبرجمي والطقطقي وابن الحراصة وابن حمدي وابن فولاذ.
وكان ينتظم في هذه الفرق أوزاع من الناس وأخلاط من الفقراء, فيهم السني والشيعي, وفيهم الهاشمي والعلوي وفيهم الأعرابي والكردي والعجمي. كانت فرقهم تنتهز انشغال الناس في الفتن التي تثار, فيغيرون على منازل الأغنياء, وكثيرا ما تغلبوا على الشرطة وهزموها. وقد بلغ من قوتهم أن فرضوا الخطبة لزعيمهم في صلاة الجمعة.
ففي عام 424هـ اجتمع في الرصافة ببغداد فريق منهم وألزموا الخطيب أن يخطب للبرجمي مع خطبته للخليفة والسلطان. وكانوا يفرضون الإتاوات على أصحاب الأعمال, وربما تولوا حفظ الأمن, وتلقب زعماؤهم بلقب القواد. وكانت أفعالهم فيها ظاهرة الثورة على فساد الحكم. وقد التزم البرجمي ومن بعده الطقطقي بمعاني الثورة وأغراضها في مقاومة حكم تسوده الفوضى ويطغى عليه نهب الأموال, واختل فيه ميزان العدل وسرت فيه الرشاوي. وكان سلوكهم مطبوعا بالمروءة, فلم يكن يسمح لأحد من أعوانهم الاعتداء على امرأة أو أخذ شيء منها, ولا التعرض لأوساط الناس .
على أن جماعات اتخذوا اسم العيارين كانوا أقرب إلى اللصوص والسراق, وفيهم فجار وقوادون, منهم ابن حمدي وابن الحراصة, فكانوا يمارسون عدوانهم على الناس فلا ينكرها عليهم أحد لأن قائدا من قواد الديلم يدعى أبا جعفر بن شيرزاد ضمن لهم ما كانوا يمارسونه بمبلغ خمسة وعشرين ألفا دينار يدفعونها إليه في كل شهر .
تاسعا - الثورات
نشبت من الثورات في العصر العباسي الثاني بين عامي 255 و 366هـ ما يزيد على خمسين ثورة, منها ما كان ثورة على الحكم, ومنها ما كان انتقاضا على الحاكمين, من خليفة وسلطان.
وكان أهم الثورات خطرا في أسبابها ونتائجها ثورتان هما: ثورة عرفت باسم ثورة الزنج وثورة القرامطة.
أ - ثورة الزنج سبق للزنج أن ثاروا سنة 71هـ ثم ثاروا سنة 76هـ لما كان ينالهم من ظلم ملاك الأراضي الذين جلبوهم من شرق إفريقيا لاستصلاح أراضيهم التي كان يغمرها شط العرب بدفع مد مياه الخليج العربي ويترك في سطحها طبقة من الأملاح. وقد قمع الحجاج, أمير العراق, الثورتين.
ثم قامت لهم ثورة عارمة في عهد الخليفة المعتز بالله. قادها رجل فارسي دعا نفسه محمد بن علي وزعم أنه علوي النسب وتروي الروايات, أنه قدم من الأهواز سنة 255هـ ونزل في منطقة تقع في جنوب العراق تعرف بالبطائح أو السباخ كان يقوم باستصلاحها الزنوج الإفريقيون, وكانوا يلاقون ظلما مريرا من أصحاب الأراضي التي كانوا يقومون باستصلاحها. فاندس فيهم ذلك الرجل وادعى أنه من آل البيت, ودعاهم لاتباعه ليحررهم من الرق, وينجيهم من عذاب أسيادهم, وأخذ يظهر لهم, بما أوتي من ذكاء وسعة حيلة, أعمالا فيها كثير من الشعوذة وينبئهم بأخبار يزعم أنها من الغيب.
وقد أقام دعوته على دعوة الخوارج وهي المساواة بين المسلمين . وقد استجاب له الأعراب الذين كانوا يسكنون في بوادي البصرة وأكثرهم ممن كان المعتصم أخرجهم من ديوان الجيش وأبدلهم بجند من الأتراك, وقد اضطرهم شظف العيش إلى شن الغارات على القرى واعتراض قوافل الحجاج, ينهبون ويسلبون, كذلك انضم إليه جموع من الفقراء والمستضعفين, وقد أغراهم بما يطمع فيه الفقراء, الذين ضمر في قلوبهم الشعور بالإيمان وتراخت عقيدتهم, فأباح لهم شيوعية الأموال والنساء, وهي عقيدة مزدك الفارسي, فاجتمعوا عليه مخلصين له مؤمنين بدعوته.
وقد عرف القائم بتلك الدعوة, الناظم لتلك الجموع الغفيرة بصاحب الزنج, لأن العدد الغالب من أتباعه كان منهم, ولأنهم أول من استجاب لدعوته, فاستولى على البحرين والأحساء, ثم توجه صعدا إلى البصرة . وفي شوال سنة 257هـ أغار على تلك المدينة وهي غافلة, فداهمها بجموعه وأمعن أتباعه فيها نهبا وسلبا وقتلا وتحريقا, فلم يسلم من أهلها إلا من هرب وهام على وجهه يلتمس النجاة.
وأوى من ظل في المدينة إلى المسجد الجامع ظنا منهم أنهم يأمنون فيه على أرواحهم, لكن الثائرين ما لبثوا أن داهموا المسجد وقتلوا من أوى إليه, ثم اقتحموا البيوت وقتلوا الأطفال وسبوا النساء, وفيهم كثير من شرائف العلويات, فتقاسمهم الآسرون, ومن دخلت في سهمه استخدمها وفجر بها وباعها, حتى بلغت قيمة العلوية ثلاثة دراهم .
ثم أحرقوا البصرة فأضحت معالمها أطلالا. وقد نظم ابن الرومي في مأساتها قصيدة وصف فيها ما حل بها وبأهلها من قتل ودمار وصفا مؤثرا, تدمع له العين وينفطر له القلب . وبعد خراب البصرة توجه صاحب الزنج بأتباعه إلى الأهواز وهزم الحملات التي كان يرسلها الخليفة المعتمد على الله لقتاله.
وبعد ذلك قصد (واسط) وهم بالتوجه إلى بغداد لولا أن الخليفة جمع له جيشا كثيفا قاده أخوه الموفق بالله, فتغلب على صاحب الزنج بعد قتال مرير وتمكن من قتله والقضاء على الفتنة التي أثارها والتي دامت خمس عشرة سنة (255 - 270هـ).
ب - ثورة القرامطة لم تكد تنتهي ثورة الزنج حتى نشبت ثورة أخرى كانت امتدادا لها ومنادية بشعارها وهو مقاومة الظلم والاستبداد ومعلنة مبدأ المساواة بين الناس. وقد عرفت بثورة القرامطة, وتنسب هذه التسمية إلى رجل فارسي عرف بلقب (قرمط), وهو لقب يطلق على القصير, المتقارب الخطا.
أما اسمه فقد اختلف الرواة والمؤرخون فيه, فمنهم من دعاه حمدان الأشعث ومنهم من دعاه الفرج بن عثمان, ولكنهم متفقون على أنه قدم من الأهواز, وظهر في سواد الكوفة سنة 258هـ في موضع يقال له (النهرين) وكانت حرب الزنج ما تزال قائمة على أشدها. وقد غلب على الرجل لقبه فكان يعرف بقرمط وعرف أتباعه بالقرامطة, وقد كان أحد دعاة الإمام الإسماعيلي (المنتظر) الذين بثهم في الأقطار عبد الله بن ميمون القداح, منظم الدعوة الإسماعيلية.
فلما تم القضاء على ثورة الزنج سنة 270هـ اجتمع حوله فلولها وبدأ بما بدأ به صاحب الزنج من إظهار الزهد والتقشف والورع, فجذب إليه قلوب الناس, وكان يخفي وراء هذا السلوك هدفا سياسيا, كان لا بد من دعمه بظاهرة التدين. وقد دعا إلى مذهب فيه مزيج من المزدكية الفارسية واليهودية والنصرانية والإسلام, وحط من شعائر الإسلام فجعل الصلاة أربع ركعات, ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان بعد غروبها, وجعل القبلة والحج إلى بيت المقدس وجعل الصوم يومين في السنة, وهما يوم المهرجان ويوم النيروز وعدل في الأذان, وفرض جزية على من خالفه وأباح قتله إن أمكن ذلك, وأخذ يفسر آيات القرآن بتأويل, بدعوى أن لآياته وأحكامه تأويلا باطنيا يفسر به ظاهرها, ومن ثم عرف مذهبهم بالباطنية.
وادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الرسالة ومن النبوة وسلم الأمر إلى علي بن أبي طالب حين خطب في الناس يوم الغدير فقال: من كنت وليه فعلي وليه, اللهم انصر من نصره وعاد من عاداه فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك تابعا ومحجوبا بعلي. وأن الإمامة المطبوعة بطابع النبوة آلت من بعد علي إلى الحسن والحسين ثم إلى علي زين العابدين ثم إلى محمد الباقر ثم إلى جعفر الصادق ثم إلى إسماعيل ثم إلى محمد بن إسماعيل وهو الإمام السابع.
وقد كثر أتباع قرمط وكثر دعاته فكان منهم زكرويه وولده يحيى والحسين, وأبو سعيد الجنابي وأبو طاهر القرمطي , وقد أقام هؤلاء دولة لهم في القطيف والبحرين واليمن وقادوا حروبا في العراق أرادوا بها انتزاع الخلافة, ونازعوا الفاطميين زعامة الدعوة, فهاجموا قواعدهم في الشام وهموا بمهاجة القاهرة وقد تمكن الفاطميون من صدهم.
وفي سنة 317هـ أغاروا على مكة فقلعوا الحجر الأسود وقتلوا الحجاج, وحملوا الحجر الأسود إلى القطيف عاصمة ملكهم وأعادوه سنة 239هـ لقاء السماح لهم بفرض ضريبة على الحجاج.
ومن تتبع الأسباب التي انطلقت منها ثورة الزنج, ثم ثورة القرامطة والتأمل بنتائجها نجد أنها ترجع إلى سببين مفترقين ومتوازيين.
فالأول منهما هو استغلال الضجر والضيق من استبداد الولاة ومن إرهاق عمال الخراج, يضاف إلى بؤس الفقراء الذين يعانون ألم الجوع والعطالة والحرمان. وكان هؤلاء مع كل دعوة للتحرر من الظلم الذي يحل بهم والضيق الذي يكابدونه.
وقد اختار دعاة الثورة جنوب العراق والمناطق المجاورة له لبعدها عن بغداد وعجز الدولة عن تتبع الثائرين.
والسبب الثاني هو استغلال دعاة الثورة جهل العامة وسلخهم من العقيدة الإسلامية من دعاة يحملون حطام دياناتهم السابقة التي ما زالوا متأثرين بها.

عاشرا - اقتسام الدول العباسية بين المتغلبين
كانت الدولة في أيام بني أمية وحدة شاملة من شرقها الممتد من بلاد ما بين النهرين وحدود الصين والهند إلى مغربها في المغرب الأقصى والأندلس. وكان يحكم أقاليمها ولاة يوليهم خليفة دمشق وإليه يرجعون في أمورهم الهامة, ينفذون سياسته ويحكمون بسلطانه. ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس استقلت بعض الأقاليم بتفويض منهم واستقل البعض الآخر بالغلبة عليهم.
ففي عهد أبي جعفر المنصور استولى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك سنة 138هـ على الأندلس واستقل بها وأنهى الحكم العباسي وأعاد الحكم إلى بني أمية.
وفي عهد المنصور أيضا أنشأ إدريس بن محمد (النفس الزكية), وهو من أحفاد الحسن بن علي بن أبي طالب دولة الأدارسة في المغرب الأقصى سنة 172هـ.
وفي عام 184هـ أنشأ إبراهيم بن الأغلب بتفويض من الخليفة هارون الرشيد دولة الأغالبة في المغرب الأدنى (تونس).
وفي عام 205هـ أنشأ طاهر بن الحسين بتفويض من المأمون دولة بني طاهر في خراسان مكافأة له لنصرته على الأمين.
فهذه الأقاليم الأربعة انفصلت عن الدولة العباسية, واستقلت عنها, وتداولت الحكم بطريق الإرث. غير أن انفصال بعضها كان يختلف عن انفصال البعض الآخر. ففي دولة بني أمية في الأندلس وفي دولة الأدارسة في المغرب الأقصى, انقطعت الصلة بدولة الخلافة العباسية. أما في دولة بني طاهر ودولة الأغالبة, فلم تنقطع الصلة بها, بل ظلت على ولائها وتبعيتها.
وفي العصر العباسي الثاني انفصلت عن دولة الخلافة الأقاليم الآتية:
ففي سنة 254هـ انفصلت مصر والشام وقامت فيهما دولة أحمد بن طولون وخلفتها دولة الإخشيد
وفي سنة 254هـ قامت دولة بني الصفار في سجستان بزعامة الليث بن الصفار واستولت على خراسان وقضت على دولة بني طاهر.
وفي سنة 261هـ قامت دولة بني سامان في خراسان بزعامة نصر بن أحمد ابن أسد بن سامان وقضت على الدولة الصفارية.
وفي سنة 297هـ قامت في إفريقية دولة العبيديين بزعامة أبي عبيد الله المهدي وقضت على دولة الأغالبة, ثم على دولة بني الأخشيد وامتد حكمها إلى مصر والشام والحجاز.
وفي سنة 320هـ قامت دولة بني بوية في فارس وأصبهان وهمذان والري بزعامة أبناء بوية وهم: الحسن وعلي وأحمد وأبناؤهم من بعدهم. وقامت في الموصل والجزيرة وحلب دولة بني حمدان بزعامة أبناء حمدان بن حمدون التغلبي.
وفي سنة 321هـ قامت دولة الغزنويين فيما وراء النهر بزعامة سبكتكين, أمير غزنة ومن بعده ابنه محمود المعروف باسم محمود الغزنوي فقضى على دولة بني سامان وامتدت دولته إلى الهند.
وفي عام 328هـ لم يبق في يد الخليفة سوى بغداد وسواد العراق, وقد جرد منهما حين استولى معز الدولة البويهي على بغداد سنة 334هـ فلم يبق من الخلافة غير لقبها.
وفي عام 421هـ قامت دولة الترك (الغز) السلاجقة, القادمين من بلاد تركتسان, فأزالت دولة الغزنويين والبويهيين والدويلات الأخرى, بزعامة طغرلبك السلجوقي, وكانت تلك الدويلات قد أضعفتها الحروب التي نشبت بينها, ولم يتكلف السلاجقة كبير عناء في القضاء عليها.
ولما مات طغرلبك خلفه ابن أخيه ألب أرسلان فقامت في عهده وحدة الدولة الإسلامية الممتدة من بلاد ما بين النهرين إلى بلاد الشام غير أن الخلاف ما لبث أن ثار بينه وبين ابن عمه (قتلمش), ونشبت بينهما الحرب سنة 456هـ, وفيها قتل (قتلمش) وأدى قتله إلى انقسام الدولة السلجوقية, فاستقل سليمان بن قتلمش بالأناضول وأقام سنة 470هـ دولة عرفت بدولة سلاجقة الروم (يقصد بها بلاد الروم) وقد اتخذ سليمان (نيقية) ثم (قونية) عاصمة له.
ولما توفي ألب أرسلان انتقلت السلطة إلى ابنه ملشكاه, فأقطع عمه (تتش) بلاد الشام فتوجه إليها وأنهى حكم الفاطميين فيها. ثم أعلن الحرب على ابن عمه سليمان بن قتلمش, ملك سلاجقة الروم, وكان قد استولى على حلب فأراد ملشكاه إخراجه منها وفي المعركة التي جرت بينهما قرب حلب في موضع يقال له (تل السلطان) قتل سليمان وخلف ولدا صغيرا اسمه (داود), فتولى ملكشاه تربيته, ولما شب ولاه مكان أبيه (قتلمش), أميرا على دولة الروم وعرف باسم (قليج أرسلان).
وقد أحدث قتل سليمان, كما أحدث من قبل قتل أبيه قتلمش, انشقاقا بين السلاجقة وأثار بينهم أحقادا, فواجهوا الغزو الصليبي متفرقين, ولو أنهم واجهوه متحدين, لتحولت مسيرة الأحداث وجهة أخرى ولسلمت بلاد الإسلام من غزو ما زالت تتجرع مرارته.
حادي عشر - سعي المتغلبين في نقل الخلافة إليهم
تدل الأحداث التاريخية على أن انتزاع الخلافة الإسلامية من العرب كان هدفا رمى إليه من خططوا له وسعوا إليه, فمن تأمل في حياة أبي مسلم الخراساني يلوح له بجلاء سعيه في انتزاع الخلافة الإسلامية ونقلها عن طريقه إلى الفرس. فقد استعان بعرب اليمن في قتال نصر بن سيار أمير خراسان للأمويين, وزعيم المضريين.
فلما تغلب على نصر قتل آلافا من العرب المضريين ثم غدر باليمنية الذين آزروه وقتل منهم الكثير حتى أفنى العرب في خراسان وأنهى حكم بني أمية فيها. وقد كافأه أبو العباس السفاح فولاه على خراسان فأقام فيها قواعد الملك بجميع مظاهره, وألف جيشا من الفرس يأتمر بأمره. وقد كشف أبو جعفر المنصور عن نيته, فلما تولى الخلافة قتله .
وكشف الرشيد في خلافته عن نية البرامكة في إحياء دولة الفرس حين ولى الفضل بن يحيى البرمكي على خراسان وحين استوزر أخاه جعفرا. فقد جند الفضل خمسمائة ألف جندي فارسي, جعل ولاءهم له وأرسل عشرين ألفا منهم إلى بغداد ليعرضهم على الخليفة, فأمر الخليفة بحلهم وحل من جندهم الفضل من أهل خراسان وعزل الفضل.
وكان هذا مما أثار الشك في نفس الرشيد وأسخطه على البرامكة, ثم تأكد من نيتهم حين علم أن جعفر البرمكي أفرج عن يحيى بن عبد الله العلوي, وكان الرشيد قد قبض عليه وأودعه عند جعفر, فأفرج عنه جعفر وزوده بمال, وسهل عليه سبيل الخروج من بغداد .
وكان الوزراء الفرس يتشيعون للعلويين ويعملون على نقل الخلافة إليهم, يؤيد ذلك أن المأمون منح ولاية العهد من بعده إلى علي الرضا ابن موسى الكاظم ثامن الأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية وزوجه ابنته, وكان ذلك بمساعي وزيره الفضل بن سهل
كذلك سعى البويهيون إلى نقل الخلافة إليهم عن طريق تزويج بناتهم للخلفاء. ففي سنة 364 زوج عز الدولة البويهي ابنته (شاه زمان) من الخليفة الطائع لله وزوجه من بعده عضد الدولة ابنته الكبرى سنة 369هـ .
وفي سنة 383هـ زوج بهاء الدولة البويهي ابنته سكينة من الخليفة القادر بالله . ولما آلت السلطة إلى السلاجقة زوج طغرلبك زعيم السلاجقة, خديجة خاتون ابنة أخيه داود من الخليفة القائم بأمر الله وطمع طغرلبك نفسه بالخلافة فتقدم إلى الخليفة يطلب الزواج من ابنته, فلم يجرؤ الخليفة على الرفض, وتم العقد على ابنته سنة 454هـ على أن تنتقل إلى زوجها في قصره بمدينة (تبريز), ويموت طغرلبك قبل أن تنتقل الزوجة من بغداد .
وقد أراد السلطان السلجوقي ملكشاه بن ألب أرسلان أن يتزوج من ابنة الخليفة المقتدي بأمر الله فأرسل إليه القاضي محمد بن عبد الرحمن النسوي سنة 478هـ ليخطبها له من أبيها الخليفة, فلما قدم عليه أخبره بما جاء من أجله, ثم نصحه ألا يفعل, فقبل الخليفة نصحه وأبى تزويجها من السلطان. فطلب السلطان أن يتزوج الخليفة ابنته (ماه ملك) فعقد عليها وتزوجها سنة 480هـ ويشاء الله ألا يتحقق ما كان يؤمل السلطان من هذا الزواج.

المصدر

http://www.mexat.com/vb/threads/47750-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A

هناك تعليق واحد: