اسامي الكتب

  • حسين عطوان..الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الأول.pdf

الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

أسباب انهيار الخلافة الإسلامية

أسباب انهيار الخلافة الإسلامية

يعود انهيار الخلافة الإسلامية إلى عدة أسباب أهمها:
أولا - نظام الخلافة
يقوم نظام الخلافة في الإسلام على قاعدة (الشورى), وقد تقرر هذا المبدأ في القرآن الكريم بقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وتأيد هذا المبدأ بقوله تعالى لنبيه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وقد طبقه النبي صلى الله عليه وسلم فكان يشاور أصحابه في الأمور التي ليس فيها حكم من أحكام الله, وبذلك أصبحت (الشورى) مدار الحكم في الإسلام.
وتقوم قاعدة الشورى على مبدأ المساواة بين المسلمين باعتبارهم أخوة في الدين, فمن توفرت فيه الصفات المؤهلة للخلافة فهو صاحب الحق فيها, دون النظر إلى جنسه أو لونه أو ثروته أو مكانته الاجتماعية. فالإسلام سوى بين المسلمين, لا يتفاوتون إلا بتقوى الله تعالى, نزولا عند قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وتقوى الله هي الالتزام بما أمر به وما نهى عنه, وفيها جماع الفضائل التي يجب أن يتحلى بها كل حاكم وهي ميزان التفاضل بين الناس.
ويتم اختيار الخليفة من مجموعة تضم من اجتمع فيه العلم والحزم والتقوى, واتصف بالحكمة والعدالة, وقد عرف هؤلاء بأهل الحل والعقد, فمن وقع اختيارهم عليه بايعوه وبايعه الناس, ويعتبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أن يسير بسيرته ويستن بسنته ويتبع نهجه, فإذا حاد حق خلعه, فإن استعصى وجب قتاله.
ولما انتقلت الخلافة إلى بني أمية بزعامة معاوية بن أبي سفيان تحقق لهم ما كانوا يطمحون إليه وما كانوا يطمعون فيه, فبدلوا نظام الشورى بنظام الإرث. وقد عهد معاوية بالخلافة من بعده لابنه يزيد وانتزع البيعة له بالمال لمن يخضع للمال, وبالقوة لمن يخضع بالقوة, وانتقلت الخلافة من بعده إلى بني مروان ابن الحكم, بعد أن تنازل عنها معاوية الثاني ابن يزيد بن معاوية واتسع بعد ذلك نطاق الخلفية, فأصبح الخليفة يعهد إلى ابنين أو أكثر من أبنائه يتوارثونها واحدا بعد آخر بالترتيب الذي يقرره, كما فعل عبد الملك بن مروان بن الحكم فقد عهد بالخلافة من بعده إلى أبنائه: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام. وقد توسط عمر بن عبد العزيز بين سليمان ويزيد بعهد من سليمان.
واستقر نظام الخلافة في الدولة الإسلامية بعد ذلك على نظام الإرث وأصبحت البيعة رسما شكليا يقبل عليها الناس, يتقدمهم الأمراء والكبراء والعلماء, وتؤخذ عليهم الأيمان المغلظة مع الحلف بالطلاق والعتاق لكي لا يتحللون منها . وفي العصر العباسي الثاني لم يعد أحد يبالي بالبيعة بعد أن أصبح مصير الخلافة بيد المتغلبين. وقد ترتب على وراثة الخلافة أمران: الصراع من أجل الخلافة وظاهرة الاستبداد والظلم.
1 - الصراع من أجل الخلافة
في البداية ظهر هذا الصراع بين أسرتين: الأسرة الهاشمية والأسرة الأموية. وبعد زوال الدولة الأموية سنة 131 - 132هـ ثار الصراع بين فرعين من الأسرة الهاشمية الأسرة العلوية الطالبية وزعيمها علي بن أبي طالب والأسرة العباسية وزعيمها العباس بن عبد المطلب يجمعهما جد مشترك هو هاشم بن عبد مناف. وقد كانت هذه الأسر الثلاث تقيم حقها في الخلافة, لا على نظام الشورى, بل على نظام الإرث من السلف إلى الخلف, ولكل منها حجته.
فالأسرة الهاشمية كانت تقيم حقها في الخلافة على قربها من الرسول صلى الله عليه وسلم , وكانت تقدم عليا بن أبي طالب في هذا الحق. والأسرة الأموية كانت تقيم حقها في الخلافة على المطالبة بدم عثمان الأموي واتهام علي بن أبي طالب بالتراخي في حمايته والامتناع عن قتل قاتليه. ولما انتزع الأمويون الخلافة, لم يستسلم الهاشميون لهم ولم يذعنوا, واتخذوا أسلوب الدعوة السرية في الدعوة لأنفسهم وشاركهم في هذه الدعوة العباسيون, واتخذوا شعارا موحدا هو الدعوة (للرضى من آل محمد), أي لمن يرضى عنه المسلمون من آل محمد وانضم إلى دعوتهم الساخطون على الحكم الأموي ومعهم الموالي من الفرس.
ومن خلال الدعوة السرية تجهزت الحملات العسكرية واندفعت لتلاقي محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية في معركة (الزاب), وفيها خسر محمد بن مروان الحرب وانهارت به الدولة الأموية التي دامت 92 عاما.
وبدأ بعد ذلك صراع جديد بين الأسرتين العلوية والعباسية. فقد تمكن العباسيون من انتزاع النصر فبايعوا عبد الله أبا العباس بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس بالخلافة. وتحول التحالف إلى صراع بين العلويين والعباسيين, وقام معه صراع بين العباسيين أنفسهم. فقد عهد الخليفة أبو العباس الذي تلقب بلقب (السفاح) بالخلافة من بعده إلى أخيه أبي جعفر (المنصور) ومن بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى, ولكن أبا جعفر أجبره على التنازل عن ولاية العهد إلى ابنه محمد (المهدي).

وولى المهدي العهد من بعده إلى ابنه موسى (الهادي) ومن بعده إلى ابنه الثاني هارون (الرشيد). فأراد موسى الهادي أن يخلع أخاه هارونا ويعهد لابنه جعفر القاصر فمانعته أمه الخيزران وكانت تكرهه, وكان موقفها منه من أسباب موته. ولما تولى هارون الرشيد الخلافة ولى عهده ثلاثة من بنيه هم: محمد (الأمين) وعبد الله (المأمون) والقاسم (المؤتمن) على أن يلوا الخلافة بهذا الترتيب, ولما تولى الأمين الخلافة عزل أخاه المأمون من ولاية العهد وعهد بالخلافة من بعده إلى ابنه القاصر موسى, وكان هذا التصرف من أسباب الصراع بينهما وانتهائه بقتل الأمين.
وولى المأمون عهده من بعده إلى أخيه محمد (المعتصم) متجاوزا ابنه (العباس), ولم يطب للعباس ما فعله أبوه فأتمر بقتل عمه مع بعض القادة, ولما تولى جعفر (المتوكل على الله) الخلافة عهد بالخلاقة من بعده إلى ابنه محمد (المنتصر) ثم أراد تقديم أخاه محمد (المعتز) عليه في ولاية العهد, فأتمر المنتصر على قتل أبيه مع قادة من الأتراك ونفذ القتل وتربع المنتصر عرش الخلافة ولم يلبث بها سوى ستة أشهر ثم مات, وقيل مات مسموما.
واستمر الصراع من أجل الخلافة في العصر العباسي الثاني يثيره المتغلبون, كما أوضحنا ذلك من قبل. وقد جرى مثل هذا الصراع في دولة الأندلس, فقد تآمر على قتل عبد الرحمن الداخل ابن أخيه المغيرة, ومعه نفر من أبناء عمومته, فقبض عليهم عبد الرحمن سنة 166هـ وقتلهم. وخلفه في الحكم ابنه هشام (الأول) فثار عليه أخواه سليمان وعبد الله, وامتدت ثورتهما إلى عهد ابن أخيهما الحكم (الأول) ابن هشام وتمكن من القضاء على ثورتهما بقتل الأول واستئمان الثاني والعفو عنه, ولما تولى الإمارة عبد الله (الأول) ابن محمد سنة 275هـ أقدم ابنه المطرف على قتل أخيه محمد, حين علم أن أباه سيعهد إليه بالإمارة من بعده, ثم توالى الصراع من أجل الخلافة, فقتل المستعين ابن عمه محمدا المهدي, ثم قتل المستعين وقتل من بعده المستظهر, وانتقل الصراع إلى الطرائف, فكان بين الأبناء والإخوة والأعمام حروب, استعان فيها كل جانب بملك من ملوك الفرنجة أو بزعيم للمرتزقة وكان أشهرهم (الكمبيادور). ويصبح الملك الإسباني هو الآمر بعد القيام بمهمته, يفرض الإتاوة على من استنصر به, فإذا عجز أو تأخر احتل إمارته وطرده منها.
ولم يظهر الصراع في الدولة الفاطمية إلا في آخر عهودها, حين انتزع المستعلي الخلافة من أخيه نزار وكان أبوه المستنصر قد عهد بها إليه, ثم قتله, وكان قتله من أسباب انقسام الدولة الفاطمية ومعها المذهب الإسماعيلي إلى (مستعلية) و (نزارية), كما أوضحنا ذلك من قبل.
وقد وقف الفقهاء من نظام الإرث في الخلافة موقف المسلم بالأمر الواقع, فأجازوا للخليفة أن يعهد بالخلافة إلى ابنه أو إلى ابن أخيه, ثم أجازوا أن يعهد بالخلافة لعدد من أبنائه يتوارثونها على الترتيب الذي يقرره, كذلك أجازوا خلافة من ينال الخلافة بالغصب, حتى لو كان فاجرا, لكيلا يبيت المسلمون بلا خليفة . وبذلك يدخل في باب الإجازة جميع الخلفاء والملوك والأمراء الذين شملتهم قاعدة الإرث, البر منهم والفاجر.
2 - ظاهرة الاستبداد والظلم
لما انتقل نظام الخلافة من قاعدة الشورى إلى نظام الإرث, وأصبحت البيعة رسما شكليا, تؤخذ بالرغبة أو الرهبة, ادعى الخلفاء أن سلطانهم مستمد من الله, وأنه حق إلهي ممنوح لهم يحكمون الناس بهذا الحق وأن طاعتهم مفروضة على الشعب, لأنها من طاعة الله. وقد أمر الله بطاعتهم في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فمن عصاهم عصى الله, ومن أطاعهم أطاع الله, فهم خلفاؤه.
وقد أضحى اسم الخليفة منذ خلافة عبد الملك بن مروان (خليفة الله) وأن ما يفعله الخليفة وما يأمر به, إنما هو من أمر الله وقدره, فلا يسأل. ومن أجل ذلك حاربوا من يقول بأن الإنسان يخلق أفعاله بقدرته وأنه يسأل عنها, لأنهم إنما يفعلون ما يصدر عنهم بأمر الله, فلا يسألون عما يفعلون.
وقد اتبع خلفاء بني العباس هذا النهج في تبرير سلطانهم, وقد عبر عنه أبو جعفر المنصور في خطبة بيعته بقوله: "إنما أنا سلطان الله في أرضه, أسوسكم بتوفيقه وتسديده". وردد الشعراء هذا المفهوم, فهذا علي بن الجهم يمدح المتوكل فيقول:
وهذا البحتري ينشد المتوكل فيقول:
وأرى الخلافة وهي أعظم رتبة
حقا لكم ووراثــة ما تنزع

أعطاكموها الله عن علم بكم
والله يعطي من يشاء ويمنع



وهذا شاعر آخر يستجدي الخليفة المنصور ويقول:
آل عبـــاس أنتــــم
سـادة النـاس والغـرر

وأولـو الأمــر منكــم
حكمـاء عــلى البشـر

مـــن رأى مـؤمنــا
قـد عصاكم فقـد كفــر

أنــزل اللـــه ذاكـم
قبل في محكـم الســور



وباستمداد الخليفة سلطته من الله, أضحى حقه في الحكم (حقا إلهيا), وسلطانه مطلقا لا رقيب عليه, يتصرف على هواه ويعزو تصرفه إلى قدر الله وتسديده. وقد نشأ عن ذلك انحراف عن خطة الإسلام. فالإسلام لا يسلم بالحكم المطلق, بل يمنح المؤمنين حق الرقابة على أعمال الحاكم وتصرفاته, وهذا الحق مستمد من قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وتمنح هذه الرقابة الحق في نقض بيعة الحاكم وعزله إذا خرج على حكم من أحكام الله .
وقد تأيد حق المؤمنين في رقابة, الحاكم في خطاب أبي بكر حين تولى الخلافة فقال: "أيها الناس, إني قد وليت عليكم ولست بخيركم, فإن رأيتموني على حق فأعينوني, وإن رأيتموني على باطل فسددوني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم, فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى أخذ الحق له, وأضعفكم عند القوي حتى آخذ الحق منه", لقد وضع أبو بكر دستور الحكم وديموقراطيته ودعا الناس إلى مراقبة أعماله, وجعل نفسه القدوة في طاعة الله وتطبيق أحكامه, ومنحهم الحق في عزله إذا حاد عن طاعة الله وخالف أحكامه.
ومن هنا نرى الفارق الجسيم بين حكومة الإسلام التي أوضح قواعدها أبو بكر وكان القدوة الصالحة في ممارستها, وبين أكثر الخلفاء الذين قامت خلافتهم على قاعدة الإرث ومنحوا أنفسهم السلطان المطلق.
وقد ترتب على ممارسة الخليفة سلطانه المطلق نشوب هذا العدد الكبير من الثورات, وكانت ظاهرة احتجاج على الظلم والاستبداد, وقد أنهكت موارد الدولة وأضعفت قوتها.
وكان من مظاهر الاستبداد إكراه الناس على أمر اعتقد الخليفة صوابه وآمن به, كما فعل المأمون حين طلب من الفقهاء أن يؤمنوا معه بأن القرآن مخلوق, فمن لم يستجب له أمر بقطع رزقه, وحبسه, ومنهم من مات في حبسه كما جرى مع أبي مسهر الغساني, شيخ مشايخ الشام .
وسار المعتصم من بعد أخيه المأمون سيرته في امتحان الفقهاء بمحنة (خلق القرآن), فجلد الإمام أحمد بن حنبل حتى تقطع جلده وزاد في الشدة من بعده ابنه الواثق, فقتل الفقيه أحمد بن نصر الخزاعي بيده وصلبه , وأمر بسجن الفقيهين البويطي وابن حماد فماتا مسجونين , وفي الفداء الجاري بين المسلمين والروم سنة 231هـ أمر أن لا يفتك من الأسر من يأبى القول بخلق القرآن, وقد أجاب جميع الأسرى بخلقه. ولم تكن مسألة خلق القرآن من الأمور التي تمس سلامة الاعتقاد, ولكن يكفي أن يكون الخليفة قد اعتقدها ليكره الناس عليها.
ومن مظاهر الاستبداد أن يأمر الخليفة بقتل من يعكر صفو مزاجه, كما فعل الأمين حين جلس يصطبح في بستان قصره - وهو محاصر من قبل جيش أخيه المأمون - فدعا جارية لتغنيه, فغنته بشعر تشاءم منه, فرماها بكأس شرابه وأمر أن تلقى في حظيرة السباع .
ومن مظاهر الاستبداد أن يسأل الخليفة محدثه عن أمر فيجيبه بما لا يسره فيأمر بقتله, كما فعل المتوكل حين سأل ابن السكيت شيخ عصره في النحو واللغة, ومؤدب ولديه المؤيد والمعتز, أيهما أفضل: ولداه أم الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب فكان جواب ابن السكيت إن قنبرا مولاهما أفضل من ولديه, فأمر المتوكل أن يدرج ابن السكيت في بساط وأن يضرب بالسياط حتى يموت, ونفذ فيه حكم الخليفة وضرب حتى مات .
هذه أمثلة من أمثال كثيرة لظاهرة الظلم والاستبداد التي مارسها الخلفاء في العصر العباسي الأول وجاراهم فيها الوزراء والعمال والقادة, وكان أكثر من عانى من قسوة البطش والاستبداد العلويون, أبناء عم العباسيين, وفي ذلك يقول الشاعر دعبل الخزاعي
وليس حي من الأحياء نعلمه
من ذي يمان ومن بكر ومن مضر

إلا وهم شركاء في دمائـهم
كما تشارك أيـسار علـى جـزر

قتل وأسر وتحريق ومنهـبة
فعل الغزاة بأرض الروم والخـزر

أرى أمية معذورون إن قتلوا
ولا أرى لبنـي العباس مـن عذر



وقد وقف الفقهاء أمام مشاهد الاستبداد والظلم فريقين: فريق أراد الدنيا فدخل في دنيا الخلفاء ونال حظه منها, ومنهم من زين أفعالهم فازداد منهم قربا. وفريق أراد الآخرة وسعى لها فتنكب عنهم وصمت على مضض, وأبى أن ينال عملا من ولاية أو قضاء, لكيلا يعمل في ظل حكم جائر فيسأل عنه. ومن هؤلاء الإمام أبو حنيفة النعمان وسفيان الثوري وعبد الله بن إدريس وعبد الله بن وهب ووكيع بن الجراح وآخرون غيرهم .
ويلحق بهذا الفريق من تزهد وتصوف وأعرض عن الدنيا واعتزل أهلها وانصرف إلى عبادة الله والتأمل في ملكوته, فصفت نفسه ورقت وأمتعته بلذة روحانية لا تعدلها لذة الحياة المادية. وبهذا الفريق بدأ عهد التصوف كظاهرة رفض للحياة المترفة واحتجاجا على شيوع الظلم والاستبداد, وكان من أوائل أهل الزهد والتصوف إبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وجعفر بن مبشر والحارث المحاسبي وذو النون المصري .
وقد اشتدت ظاهرة الظلم في العصر العباسي الثاني وتضاعفت مع مضاعفة السلطة بين الخلفاء والمتغلبين. فقد أضيفت إلى وسائل القتل السمل والنفخ والفصد وقطع الأعضاء والحبس في المطامير والتوسيط , والموت عطشا وجوعا والطرح تحت أقدام الفيلة والإلقاء في حظيرة السباع. فكان الخليفة أو القائد المتغلب يختار لمن يقتله الميتة بإحدى هذه الوسائل أو يجمع بينها كما كان يفعل المقتدر والمعتضد, وأصبح القتل عند بعضهم ملهاة, كالقاهر فقد صنع حربة يلهو بها ويرمي بها من يشاء فيقتله .
وفي الأندلس نجد ظاهرة الاستبداد وشدة البطش عند خلفاء بني أمية وعند أمراء الطوائف, وقد تجلت بإقدام بعضهم على ذبح أبنائهم بأيديهم لخروجهم عليهم, كما نوهنا بها من قبل. ومن أشهر أمثلة البطش إقدام المعتضد بن عباد أمير إشبيلية, على الغدر ببعض أمراء الطوائف الذين كان يطمع بالاستيلاء على أملاكهم, فقد دعاهم إلى حفلة أقامها لهم, حتى إذا حضروا أطعمهم ثم حبسهم في مكان مغلق وقتلهم واحتفظ برءوسهم في صناديق, ولهذا العمل سابقة أقدم عليها الخليفة أبو جعفر المنصور فقد وجد في خزائنه جماجم قتلاه من بني أمية .
ولم يكن الفاطميون أقل بطشا بالناس. فقد قتل الحاكم بأمر الله المئات لأنهم أكلوا ما نهى عنه أو خرجوا في وقت منع الخروج فيه, أو فعلوا ما نهى عن فعله. وجرى ابنه الظاهر على سنته فقد روى الإمام السيوطي أنه دعا سنة 423هـ ألفين وستمائة جارية, فحضرن بأكمل زينتهن. فلما اكتمل جمعهن بنى عليهن بيتا ثم أضرم فيه النار فاحترقن .
وقد أدى اشتداد ظاهرة الظلم في العصر العباسي الثاني إلى نشاط التصوف والتفاف العامة حول المتصوفة, يجدون العزاء عندهم والاطمئنان, ويلتمسون في جوارهم الصبر على احتمال الظلم وتعزية النفس بوعيد الله الانتقام لهم, وكان من أشهرهم سري السقطي والجنيد وبنان الزاهد والقشيري وغيرهم.
ثانيا - الزواج من أجنبيات
كانت زوجات وأمهات الخلفاء في عهد الخلفاء الراشدين من شرائف النساء ومن أعراق عربية كذلك كان خلفاء العهد الأموي. فالخليفة لا يولى إذا كانت أمه أعجمية. من ذلك أن مسلمة بن عبد الملك بن مروان كان أولى بالخلافة من سائر إخوته, لما اشتهر به من شجاعة وبطولة, ولكنه لم ينل الخلافة لأنه ابن جارية تسرى بها أبوه .
ولم يشذ عن القاعدة سوى اثنين من خلفاء بني أمية هما: يزيد بن الوليد بن عبد الملك ومروان بن محمد بن الحكم, آخر خلفاء بني أمية, فأم يزيد فارسية تدعى (شاه فرند) وهي بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى, آخر ملوك الفرس . وأم مروان بربرية من قبيلة (نفزة) بالمغرب الأقصى .
أما زوجات وأمهات خلفاء بني العباس فجميعهن من الجواري المحررات, من فارسية ورومية وتركية وأرمنية وبربرية, باستثناء ثلاثة منهم وهم: أبو العباس السفاح والمهدي والأمين. كذلك كانت زوجات وأمهات أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس, فقد كن من نساء النصارى المسبيات أو المهداة إلى الأمراء والخلفاء وفيهن من بنات ملوك وأمراء النصارى الإسبان .
ومن أشهر النساء في دولة بني العباس, الخيزران زوجة المهدي وأم ولديه موسى (الهادي) وهارون (الرشيد), وقبيحة زوجة المتوكل وأم ولده المعتز, وشغب زوجة المعتضد وأم ولده المقتدر. ومن أشهر النساء في دولة الأندلس طروب زوجة الأمير الأموي عبد الرحمن الثاني وأم ابنه عبد الله. وصبح زوجة الخليفة الأموي الحكم المستنصر الأندلسي وأم ولده هشام (المؤيد).
وقد جرى على هذه السنة الوزراء والحجاب وملوك الطوائف, فقد تزوج المنصور بن أبي عامر ابنة (سانشو الثاني) ملك (نافار) ثم تزوج ابنة (برمود الثاني) ملك (ليون), وكان زواجه منهما لغرض سياسي أريد منه التقوي بمن صاهروه على أعدائه من ملوك آخرين أو على أمراء من المسلمين كانوا قد خرجوا عليه. وتزوج المعتمد بن عباد أمير إشبيلية جارية من جواري نخاس يدعى (ابن رميك), فعرفت بالرميكية . كذلك كان شأن الخلفاء الفاطميين.
وقد كان لهؤلاء الجواري الأمهات دورا في سياسة الدولة أدى إلى صراع من أجل الخلافة وانشقاق بين الأخوة وأبناء العمومة, وكان ذلك من أسباب ضعف الدولة وانهيارها.
من ذلك ما كان للخيزران, زوجة المهدي, من شأن في عهد زوجها, فكان الوزراء والكبراء يقفون على بابها لحاجاتهم. ولما تولى ابنها موسى (الهادي) الخلافة أراد الحط من شأنها ومنعها من التدخل في شئون الدولة فعملت على قتله.
وهذه (قبيحة) زوجة المتوكل أغرت زوجها بتقديم ابنها (المعتز) على أخيه المنتصر في ولاية العهد, فكانت سبب قتل زوجها المتوكل.
وهذه (شغب) فقد كان لها الكلمة العليا في قصر الخلافة, ويكفي للدلالة على ذلك أن قهرمانتها تولت النظر في المظالم .
وهذه (طروب) فقد دبرت مؤامرة لقتل زوجها عبد الرحمن بن الحكم لتدفع عن ابنها (عبد الله) منافسة أخيه (محمد) في خلافة أبيه, وقد اكتشف زوجها عبد الرحمن المؤامرة وتغابى عن فعل زوجته وظل محتفظا بإيثاره لها ودلها عليه لفرط حبه لها, وكان له معها خبرا يدل على شدة هيامه بها تراه في ترجمتها.
وهذه صبح زوجة الحكم المستنصر فقد فرضت ابنها (هشاما) لولاية العهد ولما يبلغ الحادية عشرة من عمره.
وهذه الرميكية تفتن زوجها بدلها وتصبيه بجمالها فينطلق في التغزل بها بشعر عذب رقيق, وتصرفه عن أمور الدولة إلى لهو أغرى به ألفونسو السادس الملك الإسباني, فهم بالانقضاض عليه, لولا أن أنجده يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين, فدفع عنه الإسبان ثم استولى على ملكه ونفاه إلى المغرب الأقصى مع زوجته وأولاده ولا ريب أن الأمهات الأجنبيات قد خلقن أبناءهن بأخلاقهن ورسخت فيهم تقاليدهن التي نشأن عليها ورفعن إلى سدة الحكم أبناء فيهم من لم يبلغ الحلم, وفيهم من عاش في نعيم القصور فغلب عليه اللهو والمجون, وتولى الحكم أعوان, من وزراء وقادة, فانقادوا لأطماعهم وأهوائهم وكانوا من أسباب انهيار الدولة.

ثالثا - تجنيد الموالي
لما تولى المعتصم بن الرشيد الخلافة قضى على الطابع العربي في الجيش, فسرح العرب ومحا اسمهم من ديوان الجند وأحل محلهم جندا من الأتراك, كان يأتي بهم من تركستان أطفالا, ويتولى تربيتهم وتدريبهم على الحرب والقتال, وقد تربى على حبهم في أحضان أمه التركية, وتمكن بهم من القضاء على ثورة بابك الخرمي وبهم انتصر على الروم في وقعة (عمورية), وعظم شأنهم في عهد الخليفة الواثق ومن بعده المتوكل, وارتقى فريق منهم إلى رتبة القادة.
ونرى الجاحظ يتملق الوزير التركي الفتح بن خاقان في رسالة رفعها إليه, يمتدح فيها مناقب الترك, ويبين الفرق بين ما يمتاز به التركي عن العربي في البسالة ومقارعة الأبطال, ويقول على لسان التركي: (ولنا في أنفسنا ما لا ينكر من الصبر تحت ظلال السيوف القصار والرماح الطوال, ولنا معانقة الأبطال عند تحطم القناة وانقطاع الصفائح, ونحن أهل الثبات عند الجولة, والمعرفة عند الحيرة وأصحاب المشهرات, وزينة العساكر, وحلي الجيوش, ومن يمشي في الرمح بين الصفين مختالا. ونحن أصحاب الفتك والإقدام, ولنا بعد التسلق ونقب المدن التقحم على ظبات السيوف وأطراف الرماح, والصبر على الجراح وعلى جر السلاح, إذا طار قلب الأعرابي...) .
وإذا كان المعتصم قد استطاع أن يقمع بهم ثورة بابك, وأن يهزم الروم في وقعة عمورية فإنه لم يزد بهم شبرا واحدا على الحدود التي وقف عندها الفتح العربي في عهد بني أمية, وقد تم بسواعد عربية. ذلك أن الأتراك كانوا مقاتلين ولم يكونوا مجاهدين يعملون لنشر رسالة ودعوة إيمان.
ومن ذلك الوقت أضحى الإسلام في حالة دفاع عن الحدود التي وقفت عندها فتوح الخلفاء الراشدين ومن بعدهم بنو أمية. وقد تحول الجند الموالي إلى جنود مرتزقة, يعتصبون إذا ما تأخرت أرزاقهم ويهددون بالعصيان وقد رتبوا لأنفسهم حقوقا عند نصب الخليفة يعرف برسم البيعة,.
وهكذا حل الجنود المرتزقة من ديلم وفرس محل العرب, وفقدت ساحات الجهاد الساعد القوي وقبضة السيف الصارم, فوقفت الفتوح عند الحدود التي عادت فيها السيوف العربية إلى أغمادها.
رابعا: حياة الترف والسرف
عاش الأعرابي قبل الفتح الإسلامي مترحلا بين البوادي, من مكان يقيم فيه ثم يرحل عنه, لا يخلف فيه سوى بقايا أثاف كان يرفع قدره عليها, فيصبح بعد رحيله طللا, فإذا مر به بعد ذلك وقف عنده فنثر ذكرياته وحنينه بشعر يفيض رقة وعذوبة, ولم يكن يعرف من العيش, إلا ما كان يتوفر له من (مذيقة) يشربها وبضع تميرات يتبلغ بها, فإذا ما أصاب شيئا من ذلك, صح عزمه واشتد ساعده, وغدا ليث حرب لا يقارع, وقد وصف حياته بقوله:
إذا ما أصبنا كـل يـوم مذيقـة
وخمس تميرات صفار كوانـز

فنحن ملوك الأرض خصبا وغبطة
ونحن ليوث الحرب عند الهزائز



ولما قدم ذلك الأعرابي إلى العراق فاتحا, رأى عجينا مبسوطا, فظنه قماشا, فلما أكله مخبوزا استطابه وقال: هذا والله رقيق العيش, ومن ثم دعي بالرقاق. ثم رأى الكافور فظنه ملحا, فلما ذاقه وجده مرا فطرحه .
ثم أخذت الفتوحات تتوالى وتتسع حتى بلغت منتهاها في العصر الأموي, فانبسطت له أسارير الدنيا وأخذ يعب من أفاويقها . وفي العصر العباسي بلغ السرف غايته عند الخلفاء والأمراء والوزراء وسراة الناس, وتطاولت القصور, واتسعت الدور, تخطر في أبهائها جوار كنس من كل جنس ولون. فيهن الحسان للمتعة وفيهن القيان للغناء, وأصبحت المذيقة والتميرات الخمس الكوانز ورسوم الأثافي الدوارس التي كانت تستوقف ذلك الأعرابي وتثير ذكرياته وعبراته, محل تندر وفي ذلك يقول أبو نواس
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا, ما ضر لو كان جلس?



وقد حفلت قصور الخلفاء بمجالس الطرب, يرتادها الشعراء ويتبارون بوصف ما يجري فيها من لهو وعبث, فينالون بما تجود به قرائحهم وتنطلق به لهواتهم, الجوائز على أقدارهم. وقد دونت أخبار تلك المجالس وما كان يجري فيها من إسراف باللهو والمجون في دواوين الشعراء وكتب الأدب والأخبار.
وتروي لنا أخبار العصر العباسي الأول مشاهد اللهو والعبث في مجالس الخلفاء, وما كان يدور فيها من الشراب, يعبون منه حتى تميل الكئوس بالرءوس. وأصبح الإفصاح عن الخمرة أمرا شائعا لا حرج فيه فهذا أبو نواس يقول:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر



وهذا ابن هرمة يقول:
أسأل الله سكرة قبل موتي
وصياح الصبيان يا سكران



ويروي لنا الطبري أن المتوكل شرب ليلة قتله حتى أخذ منه الشراب وجعل يأكل وهو سكران . ولم يكن الوزراء والكتاب أقل ولعا بالشراب من أسيادهم الخلفاء ومنهم طاهر بن الحسين وعمرو بن مسعدة والحسن بن رجاء والحسن بن وهب .
ويروي الإخباريون أن ابن وهب ما كان يصحو من الشراب وكان لا يحتسب من عمره يوما يمر لا يشرب فيه ولا يستمع فيه إلى غناء, وفي ذلك يقول:
إذا كان يومي غير يوم مدامة
ولا يوم قينات, فما هو من عمري

وإن كان معمورا بعود وقهوة
فذلك مسروق لعمري من الدهـر



وكانت الأديرة تشد إليها طلاب الخمرة المعتقة, وقد أعدت لطلابها كل ما ينعش القلب ويجلو الهم ويلذ السمع ويبهج الأبصار. وقد شحذت قرائح الشعراء بأرق الشعر وأحلاه, من ذلك ما قاله جحظة البرمكي في دير العذارى .
ألا هل إلى دير العـذارى ونظـرة
إلى من به قبل الممات سبيل

وهل لي به يوما من الدهر سكرة
تعلل نفسي والمشوق عليـل

غدونا على كأس الصبوح بسحرة
فدارت علينا قهـوة وشمول

نريد انتـصـابا للمـدام بزعمنا
ويرعشنا إدمـانها فنـميـل

سقى الله عيشا لم يكن فيه عيشة
أتم ولم ينكـر علـى عـذول



ولم يكن ارتياد الأديرة مقصورا على الشعراء وغيرهم من طلاب النشوة بل كان يرتادها الخلفاء والوزراء والكبراء, وقد روى أبو الفرج الأصبهاني أن الرشيد كثيرا ما كان ينزل هذا الدير ويشرب فيه . ومثله أحمد بن عبيد الله الخصيبي وزير المقتدر فقد كان مدة وزارته مشغولا بالشراب وقد وكل الأمور إلى نوابه فأمنوا بذلك مصالحهم .
ومن مشاهد اللهو والعبث ومظاهر الترف والسرف ما روي عن ترف الخليفة المقتدر, فقد كان مبذرا مؤثرا للشهوات, وقد وزع جواهر الخلافة ونفائسها على حظاياه. ومن فنون لهوه أنه أراد في يوم أن يشرب على نرجس في بستان قصره, وكان وقت تسميد الزرع, فاستبدل السماد بالمسك, بمقدار ما احتاج إليه البستان من السماد وسمد به, وجلس يشرب يومه وليلته, واصطبح من غده, فلما قام أمر بنهب المسك, فانتهبه الخدم والعاملون في البستان واقتلعوه من أصول النرجس, وخرج منه مال عظيم .
ومن مشاهد الترف والسرف ما كان ينفق في أعراس الخلفاء, ففي عرس الرشيد على زبيدة بنت جعفر بن المنصور, قدم الرشيد ما لم يقدم لامرأة قبلها من الجوهر والحلي والتيجان والأكاليل وقباب الفضة والذهب والطيب والكسوة, وقد بلغت نفقة هذا العرس من مال بيت المال - سوى ما أنفقه الرشيد - خمسون ألف ألف (مليون) درهم. وفي عرس المأمون على بوران بنت الحسن بن سهل وزعت رقاع بأسماء ضياع وقصور وصلات, وجعلت الرقاع في بنادق المسك, ونثرت بين أيدي العروس, فكان الذي يلتقط شيئا يحبس عليه, وقد قدرت نفقة ذلك العرس بأربعين ألف ألف (مليون) درهم, عدا ما أنفقه والد العروس .
ومن مشاهد الترف والسرف ختان أبناء الخلفاء, فقد حفظ التاريخ لنا وصفا مسهبا لاحتفال الخليفة المتوكل بختان ولده المعتز, وقد بلغت نفقاته ستة وثمانين ألف ألف درهم, وقيل إن الناس كانوا يستكثرون ما أنفق في عرس المأمون ثم أتى ما أنفق في ختان ابن المتوكل ما أنسى ذلك .
ومثله ما أنفقه الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر في إعذار (ختان) حفدته بقصر الزهراء .
ومن مشاهد الترف والسرف النهم في الطعام وفي النكاح. فالأعرابي الذي كانت ترويه رشفة لبن وتشبعه بضع تميرات, بها كان يشتد ساعده وتقوى عزيمته, قد زهد في مطعمه ومشربه حين أضحى منه الخليفة والأمير والقائد والوزير, وأقبل على المطاعم الشهية, تقدم إليه في أوان من ذهب وفضة, يأكل مما فيها بنهم شديد, فلا يكاد يشبع, وتدار عليه الخمرة في كئوس, تشع من خلالها أنوارها فيصيب منها ما يشاء ولا يكاد يرتوي. ثم يخلو بمن شاء من جوار كنس, فتمتعه بكل فنون الحب وتصبيه وتنال بدلها كل ما تشتهي. وقد يعلو سلطانها على سلطانه, فيجمع بين طيب الطعام وطيب المضجع, وهو ما يسميه العرب بالأطيبين: النكاح والطعام.
وقد أدى الإفراط فيهما إلى اعتلال أمزجة من ولي السلطة من خليفة أو سلطان, وموتهم في سن مبكرة, فقد مات أكثرهم في ميعة الصبا والشباب, وقليل منهم من تجاوز الخمسين من عمره, وكان لاعتلال أمزجتهم أثر في سياسة الدولة. وكيف يرجى ممن كان همه الأطيبان أن يسوس دولة, وقد ضنى جسمه واعتل مزاجه ووهنت أعصابه, فأصبحت كلمة من يرضى نهمه أو يوفره له هي العليا, وضعفت نفسه عن تحمل ما لا يرضيه, فيأخذ بالظنة, ويحكم السيف في الرقاب, وقد أزاح سيف الجلاد ميزان العدل فأصمت الحق, وأضحى قوله مهلكة يطلبها من أراد الاستشهاد .
ولم تقتصر مجالس الخلفاء ومن سار سيرتهم من السلاطين على مشاهد الترف والسرف بل كانت تحفل باللهو والعبث, فكان الندماء يقومون بضروب اللهو الماجن, وربما تحلل الحضور من أبهة الملك لمزيد من العبث. وقد تأسى الوزراء والكبراء بسيرتهم ومنهم من كانت تجري في مجالسهم مشاهد فيها نوع طريف من اللهو, من ذلك ما رواه ابن خلكان وغيره عن الوزير المهلبي, وزير معز الدولة البويهي سلطان بغداد .
فقد روى إنه كان من ندمائه قضاة وفقهاء, منهم القاضي علي بن محمد التنوخي والقاضي أبو بكر بن قريعة والقاضي ابن معروف وآخرون, فكان يجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على أطراح الحشمة والتبسط في القصف الخلاعة, فإذا أصبحوا عادوا كعادتهم إلى التوقر والحشمة .
http://www.mexat.com/vb/threads/47750-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق